الشاعر أيمن اللبدي

 

## "الجغرافيا المقلوبة": صوت أم كلثوم كبوصلة نقدية للحداثة المصرية في رؤية مهاب نصر

 

  

### مدخل إلى المعمار النقدي: قراءة في كتاب "الجغرافيا المقلوبة"

 

صدر مؤخراً عن دار "بيت الحكمة" بالقاهرة، كتاب "الجغرافيا المقلوبة - عن الحداثة المصرية ومآزقها"، للشاعر والكاتب المصري الراحل **مهاب نصر** (1962 - 2023). يمثل هذا العمل خلاصة تأملات نقدية وفلسفية عميقة، جمعت بين دفتيها المقالات والكتابات الأخيرة للمؤلف، مقدماً تشريحاً ثقافياً وفنياً لتجربة مصر الحديثة.

## "الجغرافيا المقلوبة": صوت أم كلثوم كبوصلة نقدية للحداثة المصرية في رؤية مهاب نصر

## "الجغرافيا المقلوبة": صوت أم كلثوم كبوصلة نقدية للحداثة المصرية في رؤية مهاب نصر

• لم يكن مهاب نصر مجرد متابع أو مؤرخ، بل كان ناقداً يمتلك أدوات التحليل الفلسفي اللاذع، متسلحاً
•  بذكريات مدينة الإسكندرية وتحديداً منطقة "كامب شيزار"، التي شكلت خلفيته المعرفية. وعلى الرغم
•  من تنوع محاور الكتاب ما بين الفن والأدب وتجارب الحياة الشخصية، إلا أن المحور الأبرز والأكثر
•  ثقلاً في "الجغرافيا المقلوبة" هو دراسته المتفردة للتجربة الغنائية لكوكب الشرق، **أم كلثوم**.

تأتي هذه القراءة المتأخرة لتجربة أم كلثوم في وقت تحتفل فيه الأوساط الثقافية المصرية بعمق بمسيرتها، كتتويج لمعرض "صوت مصر" الحاشد الذي أقيم في قصر عائشة فهمي، والذي جمع بين الفنون التشكيلية والمقتنيات التاريخية. لكن نصر يبتعد عن الاحتفاء السطحي ليقدم أم كلثوم كرمز إشكالي، ونقطة ارتكاز لفهم التحولات الاجتماعية والفنية التي عاشتها مصر خلال قرن من الزمان.

### صوت يتجاوز المناجاة الفردية الحزن كجلال مطلق

 

إن الرؤية الأساسية التي يقدمها مهاب نصر لصوت أم كلثوم تقوم على نفي فكرة "الغناء الشخصي". لم تكن أم كلثوم في نظره تغني لحبيب واحد بعينه، بل كانت تحول العاطفة الشخصية إلى رمزية كبرى تلامس الجلال المطلق.

 

1. يستشهد نصر برأي صديقة له كانت ترى أن "واحدة مثل أم كلثوم لا يمكنها أن تغني لشخص واحد
2.  تحبه". ويفسر نصر هذه الملاحظة الفطرية بأن صوت الست، حتى وهو يصدُر عن "حنجرة جريحة
3.  محطمة"، كان أشبه بـ **جدار يتداعى**. في هذا المشهد، يتضخم الحزن ويصبح موضوعاً رمزياً
4.  مجرداً، بينما يتضاءل الحبيب المناجَى حتى يختفي تماماً من المشهد.

 

صوت أم كلثوم، في هذا السياق، لم يكن أداة تواصل مع الطرف الآخر، بل كان إعلاناً لوجود عاطفة جمعية، وإقراراً بأقصى درجات الشعور الإنساني الذي يتجاوز حدود الفردية. إنها تنقل الحب والحسرة من دائرة السرد العاطفي الخاص إلى مصاف القضايا الوجودية والوطنية التي تتشابك مع هوية الأمة.

 

### مفارقة "المجتمع الأمومي" الأنا الأعلى تتجسد في الست

 

واحدة من أكثر الأفكار إثارة للجدل التي يطرحها مهاب نصر في كتابه تتعلق بالنسيج الاجتماعي الذي احتضن هذه التجربة. يذهب نصر عكس التيار السائد الذي يصف المجتمع المصري خلال فترة صعود أم كلثوم بـ "الذكوري"، ليؤكد أنه كان **"مجتمعاً أمومياً بامتياز"**.

 

• هنا تكمن "الجغرافيا المقلوبة" التي يشير إليها العنوان؛ ففي مجتمع بدا محافظاً ظاهرياً وتحكمه
•  الأعراف الذكورية، كانت المرأة تلعب دور **"الأنا الأعلى" (Superego)**. أم كلثوم لم تكن
•  مجرد مغنية، بل كانت تجسيداً للسلطة الأخلاقية والجمالية للمجتمع.

 

يرى نصر أن هذه المفارقة التاريخية تعود جزئياً إلى استعادة الوضع الأمومي المتجذر في الحضارة المصرية القديمة، لكن تم إسقاطه في إطار المد القومي العروبي والسياسي، خاصة في فترة الستينيات. لقد مثلت أم كلثوم صوت الأمة، المربي والموجّه، الذي يحق له أن يتكلم باسم العواطف النبيلة والأفكار الكبرى، ليس فقط باسم الحب، ولكن باسم الصمود والوطنية.

 

### سميائية الحضور الجسدي المنديل والتحفظ

 

لا يقتصر تحليل نصر على الصوت وحده، بل يمتد ليشمل الحضور الجسدي "للست" على خشبة المسرح، وهو حضور وصفه بأنه "جزء مضيء وإشكالي" من الحضور العام.

 

1. كانت وقفتها المميزة، قدم تتقدم أخرى بمسافة قصيرة أمام الفرقة، وساعدان تتحفزان دون مغادرة
2.  كاملة للوقار، تمثل حدود الانضباط الذاتي. أما اليد المقبوضة على **المنديل الشهير**، فيراها نصر
3.  رمزاً احتجازياً؛ كأنما تحتجز قامتها كشاهد على **الحد الأقصى لما يجب ولما لا يليق أيضاً**. 

إنها لغة جسد توازن بدقة بين الإفراط في التعبير العاطفي الذي يتفجر من حنجرتها، والتحفظ الاجتماعي الذي كان مفروضاً عليها كشخصية عامة تمثل قدوة. هذا التناقض بين الانفجار الصوتي والانكماش الجسدي هو ما يمنح حضورها قوته الرمزية.

 

### رياض السنباطي وتقديس الكلمة معمار كلاسيكي مهيب

 

يتعمق مهاب نصر في تحليل الشق الموسيقي لهذه التجربة، مركزاً على دور الملحن **رياض السنباطي** الذي صنع لأغاني أم كلثوم "معماراً كلاسيكياً مهيباً".

 

• استطاع السنباطي أن يطوع هذا المعمار الغربي الصارم للمقامات الشرقية، معتمداً على طريقة
•  تعبيرية بلغت حد الإفراط في استخدام الجمل الطويلة التي تتصاعد فيها الآهات والليالي. كانت هذه
•  الجمل أشبه بـ "أمواج تتلطم وتنكسر" بين أقصى حالات المناجاة وأقصى حالات الحسرة.

 

لكن المفارقة، وفقاً لنصر، أن السنباطي استخدم صوت أم كلثوم بقدراته الهائلة من أجل رفع الحب إلى مستوى "مثال متعال"، يعبر عن "صراع الأهواء" لكنه ظل ابناً لبيئة اجتماعية تتسم أساساً بـ **التحفظ والكتمان**. الموسيقى كانت تقول شيئاً، والمجتمع كان يمارس شيئاً آخر، والسنباطي نجح في تلبس هذا التناقض بعبقرية.

 

يلاحظ المؤلف ظاهرة محورية في موسيقى السنباطي، وهي **تقديس الكلمة المكتوبة**. لقد كان يعطي للكلمات بعداً متجاوزاً ودرامياً لصراعها المثالي، دون أن يتجاوز حدود النص الشعري. شكل هذا الاتجاه تحدياً ظل قائماً في الموسيقى المصرية لفترة طويلة، حيث كان التحرر الكامل من النص والوقوع في "الموسيقى المجردة" ينظر إليه كنوع من التجديف أو الخروج عن المألوف.

 

### الصوت الآمر المثول في حضرة الجلال المطلق

 

يختتم مهاب نصر تأملاته بتقديم سبب جوهري لاستمرار الإجماع غير المسبوق على صوت أم كلثوم، حتى بعد مرور عقود على رحيلها. يرى أن سر هذا الإجماع يكمن في طبيعة الخطاب الذي يقدمه صوتها:

 

**"صوتها لا يخاطبنا، لكنه يأمرنا بالمثول في حضرة الجلال المطلق والرمزي للعواطف والأفكار الكبرى."**

 

1. إنها دعوة إلى الانصياع لسلطة فنية عليا، تحوّل العواطف إلى مفاهيم كبرى مثل الحزن، ولهفة اللقاء
2.  واضطراب فكرتنا عن الزمن، ومعنى الصمت المشبع بـ **الامتثال والكبرياء معاً**. لقد نجحت أم
3.  كلثوم في تحويل تجربة الغناء إلى تجربة وجودية جماعية، حيث لا مجال فيها للتفاوض أو الاستماع
4.  الحيادي، بل هو أمر بالمشاركة الوجدانية في "جغرافية مقلوبة" حيث تلتقي الحداثة بمآزقها، وتتجسد
5.  الأمة في صوت امرأة.

 فى الختام

يشكل كتاب مهاب نصر "الجغرافيا المقلوبة" إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، لا سيما في تناوله الفلسفي والاجتماعي العميق لشخصية ثقافية بحجم أم كلثوم، متجاوزاً بذلك السرد التقليدي ليقدمها كمرآة صافية تعكس تعقيدات الحداثة المصرية.